
الاجترار: تعريفه وتأثيره النفسي:
الاجترار هو الانخراط في عملية تفكير سلبية متكررة تدور في الذهن بشكل دائري دون نهاية أو حلول واضحة. هذا النمط غالبًا ما يكون مزعجًا، ويصعب إيقافه، ويتضمن تكرار نفس الفكرة السلبية أو محاولة حل مشكلة غير قابلة للحل.
الطابع التكراري هو السمة الأساسية للاجترار. تدور نفس الأفكار أو المخاوف أو الأسئلة في الذهن مرارًا، وقد تستمر لساعات. وعلى عكس التفكير المنتج الذي يؤدي إلى حلول، فإن الاجترار يدور حول نفس القضايا دون إحراز تقدم.
وغالبًا ما تبدأ هذه الأنماط بأسئلة تبدأ بـ “لماذا؟”، مثل:
- “لماذا حدث هذا لي؟”
- “لماذا لا أستطيع حل هذا؟”
- “لماذا أرتكب نفس الأخطاء دائمًا؟”
هذا النوع من الأسئلة التحليلية والتجريدية يُغذي المزيد من الاجترار بدلًا من الوصول إلى حلول عملية.
أولًا: الاجترار والاكتئاب:
كيف يتفاعل الاجترار مع الاكتئاب؟
أظهرت الأبحاث أن الاجترار يُعد أحد أبرز العوامل التي تساهم في تطوّر الاكتئاب واستمراره. عند دخول الشخص في نوبة اكتئاب، يبدأ عقله في الدوران داخل حلقة من التفكير السلبي حول مواقف سابقة، مشاعر العجز، وانعدام الأمل تجاه المستقبل. وهذا بدوره يعزز الشعور باليأس والعجز، مما يطيل أمد الحالة الاكتئابية.
الدائرة المفرغة: الاكتئاب يُغذي الاجترار، والاجترار يُغذي الاكتئاب:
الباحثون يرون أن العلاقة بين الاجترار والاكتئاب علاقة تبادلية. فالشخص المكتئب يصبح أكثر ميلًا لاجترار الأفكار السلبية، وهذا الاجترار يعمّق الشعور بالاكتئاب ويطيل فترته، وكلما طالت فترة التفكير المفرط بهذه الطريقة، زادت حدة الأعراض.
ثانيًا: الاجترار والقلق:
الاجترار كعامل رئيسي في القلق المزمن:
القلق وخاصة اضطراب القلق العام، يرتبط بشكل وثيق بالاجترار، لكن الفرق هنا هو أن الشخص القَلِق يركز أكثر على المستقبل، ويخشى حدوث أمور سلبية. الاجترار هنا يأخذ شكل القلق المستمر بشأن مواقف مستقبلية، واحتمالات حدوث الكوارث، مما يخلق شعورًا دائمًا بعدم الأمان.
الاجترار الاجتماعي:
يمكن أن تكون المواقف الاجتماعية محفّزة بشكل خاص للاجترار، حيث يعيد الكثيرون استعادة المحادثات في أذهانهم، يفكرون فيما قالوه أو لم يقولوه، ويقلقون بشأن كيف رآهم الآخرون. هذا النوع من الاجترار الاجتماعي يكون بارزًا خاصة لدى من يعانون من القلق الاجتماعي.
آثار الاجترار على الصحة النفسية والجسدية:
- اضطراب النوم: التفكير المتكرر يمنع العقل من الاسترخاء، مما يؤدي إلى الأرق أو النوم غير المريح، وبالتالي يُفاقم الشعور بالتعب والإجهاد العقلي.
- زيادة التوتر الجسدي: الاجترار يزيد من التوتر العضلي، خاصة في الرقبة والفك والكتفين، ما يسبب الصداع وآلامًا مزمنة.
- الإجهاد البيولوجي: الاجترار المزمن يُنشّط محور الضغط في الجسم (HPA axis)، مما يؤدي إلى ارتفاع هرمون الكورتيزول وزيادة الالتهاب، وهذا بدوره يضعف المناعة وقد يؤثر على القلب والجهاز الهضمي.
طرق فعالة لكسر حلقة الاجترار:
- فيما يلي بعض الطرق التي يقترحها المتخصصون في الصحة النفسية والتي يمكنك اتباعها بنفسك للمساعدة في كسر دائرة الاجترار:
- كتابة الأفكار يمكن أن تساعدك في تهدئة التفكير أو رؤية الأمور من زاوية جديدة.
- اداء أنشطة تقطع سلسلة التفكير السلبي وتركّز على ذكريات إيجابية.
- حاول أن تتذكر عمدًا أوقاتًا تغلبت فيها على تحديات ونجحت رغم الصعوبات للمساعدة على تغيير مسار التفكير.
- النشاط البدني وتغيير البيئة، خاصة الذهاب إلى أماكن لها ارتباطات إيجابية في ذاكرتك، يمكن أن يساعد أيضًا.
- قسّم مشكلاتك الكبيرة إلى أجزاء صغيرة، وركز على حل جزء واحد في كل مرة، ضع خطة خطوة بخطوة، واكتبها، ثم ابدأ في تنفيذها، بخطوات صغيرة ومدروسة.
العلاج النفسي: تدخل فعّال وعلمي:
أحد أكثر أشكال العلاج فعالية في مواجهة الاجترار هو العلاج المعرفي السلوكي (CBT)، الذي يساعد على تعديل التفكير السلبي، وهناك شكل متخصص منه يُعرف باسم العلاج المعرفي السلوكي الموجّه للاجترار (RF-CBT)، يركّز على تغيير نمط التفكير نفسه وليس فقط محتوى الأفكار. كذلك، يمكن أن تساعد تقنيات الاسترخاء، والممارسات السلوكية الأخرى في تخفيف الاجترار.
متى يجب طلب المساعدة؟
يجب التحدث إلى طبيب أو مختص نفسي إذا:
- أصبحت الأفكار الاجترارية يومية وتؤثر على التركيز أو المزاج أو الأداء.
- لا يستطيع الشخص السيطرة عليها إلا من خلال طقوس معقدة.
- تزداد أعراض الحالة النفسية سوءًا.
- تتضمن الأفكار الاجترارية ميولًا انتحارية أو إيذاء الذات.
الاجترار هو عملية ذهنية مؤذية قد تساهم في تكوين الاكتئاب أو القلق أو إبقائهما لفترة طويلة. ورغم طبيعته المعقدة، إلا أن التعامل معه ممكن من خلال الفهم، والملاحظة الذاتية، واتباع تقنيات التغيير الذهني والسلوكي. في حال عدم التحسن، فإن التوجه لمختص نفسي هو خطوة شجاعة وأساسية نحو حياة أكثر صفاءً ومرونة نفسية.