
مقدمة:
أصبح القلق سمة بارزة في العصر الحديث، نتيجة التغيرات السريعة والمعقدة التي يشهدها العالم على مختلف الأصعدة.
فقد بات الإنسان يعيش في ظل أحداث متسارعة وظروف حياتية ضاغطة، مما جعله أكثر عرضةً للتوتر والاضطراب النفسي.
ويُعد القلق من أبرز الانفعالات الناتجة عن هذه التحولات، حيث يرتبط بشكل مباشر بالشعور بالتهديد والخطر المستقبلي.
وقد أشار بخاري (2020) إلى أن القلق لم يعد استجابة ظرفية مؤقتة، بل تحول إلى سمة ملازمة لهذا العصر المتغير.
أولًا: القلق كظاهرة نفسية
يُعرف القلق وفقًا للدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية DSM-5-TR بأنه حالة من التحسب المستمر للتهديدات المستقبلية، مصحوبة بمجموعة من الأعراض الجسدية والنفسية مثل توتر العضلات، اليقظة الدائمة، الانشغال الزائد، صعوبة التركيز، الأرق، وسرعة التعب. وتُعد هذه الأعراض مؤشرات واضحة على التأثير العميق للقلق على الفرد ووظائفه اليومية.
وتشير الدراسات إلى وجود عوامل متعددة تسهم في نشوء القلق، منها العوامل الوراثية التي تتعلق باستعداد فسيولوجي في الجهاز العصبي يظهر عند التعرض للإجهاد، كما ذكر محزري (2021). كما تلعب أساليب التنشئة الاجتماعية دورًا حاسمًا في بناء شخصية الفرد وقدرته على التعامل مع الضغوط، حيث بيّن العواد (2023) أن الممارسات التربوية السلبية، مثل الحماية الزائدة أو الإهمال أو العقاب المتكرر، تزرع مشاعر القلق لدى الأطفال منذ الصغر، خاصةً في البيئات الأسرية المليئة بالصراعات والمشاحنات.
ثانيًا: قلق المستقبل
يمثل قلق المستقبل نوعًا خاصًا من القلق، إذ يرتبط بتوقعات الفرد حول ما قد يحدث لاحقًا من أخطار أو تهديدات، ويصاحبه إحساس بالخوف والشك واليأس، إضافة إلى ضعف الثقة بالنفس والشعور بعدم الأمان. ويعد قلق المستقبل قابلًا للإدراك العقلي، حيث يستطيع الفرد أحيانًا تحديد أسبابه، إلا أن وعيه بها لا يقلل من أثرها الانفعالي، بل قد يزيد من انشغاله بها. وقد أشار الحزمي (2024) إلى أن قلق المستقبل ينبع من فقدان الشعور بالسيطرة والقدرة على التكيف مع المجهول.
ثالثًا: النظرية المعرفية السلوكية في تفسير القلق
تُعد النظرية المعرفية السلوكية من أبرز الإطارات النظرية التي فسّرت القلق بشكل منهجي، إذ ترى أن أصل الاضطرابات الانفعالية، بما فيها القلق، يكمن في أنماط التفكير المشوهة أو غير العقلانية. ووفقًا لعدة منظّرين في هذا الاتجاه، مثل ألبرت إليس (Ellis) الذي ركز على الأفكار اللاعقلانية، وأرون بيك (Beck) الذي تحدّث عن الأفكار التلقائية السلبية، وميكنبوم (Meichenbaum) الذي أشار إلى التعليمات الداخلية، فإن الأفكار تلعب دورًا محوريًا في تفسير ظهور القلق.
يرى بيك (1976/2018) أن القلق يحدث عندما يقوم الفرد بسلسلة من التقديرات المعرفية للحدث، تبدأ بالحكم الأولي الذي يعرّف الموقف كتهديد، يتبعه تقييم للموارد المتاحة لمواجهة هذا التهديد، ثم مرحلة إعادة التقدير التي تتعلق بمدى شدة الخطر وسبل الاستجابة له. ونتيجة لهذه العمليات، قد يستجيب الفرد إما بالهروب أو بالمواجهة، اعتمادًا على تفسيره للموقف وليس على الحدث الموضوعي نفسه.
ويدعم هذا التوجه أيضًا فريمان (2012/2023)، الذي يرى أن القلق لا ينشأ من الحدث بحد ذاته، وإنما من تفسير الفرد لهذا الحدث، ومدى إدراكه لقدراته على التعامل معه. كما أن السياق والمزاج العام والخبرات السابقة تُسهم في تشكيل طريقة التفسير. وفي هذا السياق، يعتبر القلق مثل باقي الانفعالات الأخرى، ينتج عن تقييم داخلي شخصي قد لا يكون واعيًا دومًا، بل يعتمد على إشارات تلقائية تصدرها الحواس استجابةً لما قد يبدو كتهديد.
أما بارلو (Barlow)، فقد أشار إلى أن القلق المستقبلي يتولد من توقعات الفرد السلبية بشأن الأحداث القادمة، وقد يكون التهديد الذي يتوقعه الفرد واضحًا أو غامضًا، إلا أن الاستجابة تكون دائمًا مصحوبة بتوجس دائم يصعب التخلص منه. وهذا ما يجعل القلق حالة مستمرة تتسبب في اضطرابات متعددة في السلوك والانفعالات.
وتُؤكد نظرية هوفمان (Hofmann, 2011/2012) نفس الفكرة، حيث يرى أن مصدر القلق الحقيقي لا يكمن في الأحداث، وإنما في الطريقة التي نستقبل ونفسر بها هذه الأحداث. فالأفكار والتوقعات والافتراضات التي يحملها الفرد تجاه مواقف الحياة هي المسؤولة عن استجابته القلقة، وليس الموقف الموضوعي نفسه.
مثال:
“لن أتمكن من إيجاد وظيفة مناسبة، كل من تخرج قبلي لم يحصلوا على عمل، وإذا لم أجد وظيفة خلال الأشهر الأولى فإن مستقبلي قد انتهى”.
أنماط التفكير المشوّهة:
التعميم المفرط (Overgeneralization):
“كل من تخرج قبلي لم يحصلوا على عمل.”
يقوم الفرد بتوسيع تجربة أو ملاحظة جزئية لتشمل كل الحالات دون وجود بيانات كافية. هذا النمط يُشعره بأن مصيره مشابه، مما يغذي مشاعر العجز والإحباط.
2.التفكير الكارثي (Catastrophizing):
“إذا لم أجد وظيفة خلال الأشهر الأولى فإن مستقبلي قد انتهى.”
يرى الفرد أن التأخر في إيجاد وظيفة، حتى لو مؤقت، يعني فشلًا كاملًا دائمًا. هذا التصور يُحدث حالة قلق مرتفعة ويعيق التفكير العملي والتخطيط الواقعي.
3.الاستنتاج العاطفي (Emotional Reasoning):
“أشعر بالقلق والإحباط، إذًا بالتأكيد لا يوجد أمل.”
يخلط بين المشاعر والحقائق، حيث يُستنتج من الانفعال السلبي أن الموقف بالفعل سلبي، رغم غياب دليل واقعي.
4.التفكير الثنائي (All-or-Nothing Thinking):
“إما أن أجد وظيفة فورًا، أو أنني فاشل تمامًا.”
هذا النوع من التفكير يُلغي كل الاحتمالات المتدرجة ويحول النجاح إلى معادلة صفرية، مما يزيد الضغط النفسي على الفرد ويحد من قدرته على التعامل المرن مع الواقع.
يظهر هذا المثال كيف أن الطريقة المشوهة في تفسير الواقع، وليس الواقع ذاته، هي التي تولد القلق، فالمعتقدات السلبية غير الواقعية عن الذات والمستقبل تخلق حلقة مغلقة من الانفعالات السلبية والسلوكيات غير التكيفية.
خاتمة:
يتضح من خلال العرض السابق أن القلق عامة وقلق المستقبل خاصةً هو حالة نفسية ناتجة عن تفاعل معقد بين عوامل وراثية، معرفية وبيئية. وتقدم النظرية المعرفية السلوكية تفسيرًا مقنعًا لهذا التفاعل، حيث تؤكد على أن أفكارنا وتوقعاتنا هي التي تحدد نوعية استجابتنا النفسية، لا الأحداث نفسها. إن إدراك هذه الحقيقة يمكن أن يكون الخطوة الأولى نحو التعامل الأفضل مع القلق، من خلال تعديل الأفكار غير الواقعية أو السلبية، وبناء تصورات أكثر اتزانًا وواقعية حول الذات والمستقبل.
المرجع:
السلمي، أريج عوض. (2024). جودة الحياة وقلق المستقبل لدى مرضى الفشل الكلوي الخاضعين للغسيل الكلوي وزارعين الكلى في ضوء بعض المتغيرات الديموغرافية. جامعة تبوك.